hossamhasan

شارك على مواقع التواصل

(1)
ربما فكر دكرور لثانية أن يشق رأسها نصفين بفأسه، حتى جاء مافي وقال:
- شكرًا على مساعدتك.. والآن هيّا...
نظر حيث ينظر دكرور وعلامات الذعر على وجهه، فقال كلمة بلغته الأصلية، يعلم دكرور أنها بمعنى "اللعنة"، وما أن رأت تلك الفتاة مافي أسقطت سكينها، وأحكمت ذراعيها حول الرضيع، وأجهشت باكية تقول:
- أرجوكم!!! خذوني! خذوني أنا واتركوا صغيري.. أرجوكم يمكنني أن أفعل أي شيء، فقط... إنه... بربّكم! إنه صغير!
ومعها كل الحق في ذلك، فرؤية مافي بحجمه الهائل، وملابسه الدامية، وفأسه المميز في يده؛ كل ذلك يكفي لإصابة رجل بالغ بالخوف، قال مافي:
- سأحضر بوهاردي
وهرع إلى المتن، وترك دكرور مع المرأة تبكي وهي تقول:
- أرجوك! تبدو رجلًا محترم، أتوسل إليكَ! سأذهب معكَ.. سأكون ملككَ وحدك، لكن اترك صغيري إدموند، انظر!.. انظر إليه كم هو صغير! أترى كم هو هادئ؟!
ثمّ قدمت إليه الطفل كأنها تريده أن يحمله، فتراجع دكرور وجفل وأعاد تصويب فأسه كما لو أنه حسبها ستطعنه، ولاحظ كم أن ذلك الطفل صغيرًا، لم يكن دكرور خبيرًا، لكنه لم يحتَج أن يكون كذلك ليدرك أن عمر هذا الطفل أقل من ستة أشهر أو حتى أقل.
عاد مافي ومعه موريس وعمار، فقال عمار أول ما نزل:
- لن أسمح لكم بتفجير هذه السفينة من دوني هذه المرة!
فانكمشت الفتاة وأحكمت ذراعيها حول طفلها، وكفّت عن البكاء وإن لم تكف عن الارتعاد، ثم قال موريس:
- ما الأمر يا دكرور؟ لقد عاد الجميع بالفعل...
ثم جاء ووقف أمام الفتاة دون أن ينبس بكلمة، ودون أن تبدو عليه أي علامة على الدهشة، كأنه يعلم بأمرها مسبقًا، وإن كانت رؤية مافي قد أصابتها بالخوف؛ فرؤية موريس أصابتها بالذعر، ثم جاء عمار ينظر من فوق كتف موريس وقال:
- فلتحل بي اللعنة!!! ما هذا الذي بين يديها؟
ردّ مافي:
- إنه طفلها
قال دكرور بصوت متحشرج مبحوح يثير الغثيان في من يسمعه:
- ستغرق السفينة خلال ساعات، ماذا سنفعل بها؟
وبالفعل كانت السفينة مائلة كثيرًا، وتصدر صريرًا مرعبًا، والمياه تغمرها، تفقد موريس كل ذلك كأنه يتأكد من كلام دكرور، ثم قال:
- ستأتي معنا، نعم! ليس هناك حل آخر
اندهش دكرور واستوقف موريس قبل أن يعود إلى الفتاة وقال:
- لن يكون ذلك صائبًا يا موريس، لم لا نتركها على أحد القوارب؟
- ولم لا تقتلها الآن وتوفر على البحر عناء الأمر؟
ثم اقترب موريس من الفتاة ورضيعها، وجثا على ركبته ومد إليها يده برفق، وهو يقول بحنان بدا غريبًا عليه:
- ما اسمك يا سيدتي؟ وماذا تفعلين هنا؟ لابد أنك زوجة القبطان
فقال عمار في تأثر مبتذل:
- فلترقد روحه في...
قاطعه مافي بضربه في بطنه جعلته ينحني عاجزًا عن التنفس، ولما لم تتكلم الفتاة قال موريس:
- أعدكِ أنه لن يمسك أنتِ أو رضيعكِ أي أذى، لكن يجب أن تأتي معنا، لدينا مكان آمن.. أترين! للأسف ستغرق هذه السفينة قريبًا، وبالطبع لا تريدين أن يحدث ذلك وأنتِ ورضيعك بداخلها.. صحيح؟
نظرت إليه الفتاة برِيبة وأومأت بتوتر، فمد موريس لها يده يساعدها على الوقوف، لكنها وقفت دون مساعدة في كبرياء مبتذل، وتقدمت المسير إلى السطح مع عمار ومافي، فاستوقف دكرور موريس وسأله هامسًا:
- وكيف تريد أن تدخلها جوف حوت؟
- ما زلتُ أفكر في كيفية إنزالهم سالمين
فسكت قليلًا يفكر ثم أردف:
- لن تدخل هذه الفتاة إلى فم حوت وهي تحمل طفلها، حسنًا ستتولى أنتَ أمر الطفل، وأنا سأتولى أمر الفتاة
قالها موريس وترك دكرور دون أن يستفسر منه عن كيفية تولي أمر الطفل، فسكت مضطرًا وتبعه إلى أعلى، فكانت الفتاة تضم طفلها بقوة فبدت أنها تخنقه، وأخذت تلتفت حولها بتوتر وهي تقول:
- أين سفينتكم؟
وكأنه يجيبها؛ أطلق أطلس نفثة عالية من جانب السفينة، ففزعت الفتاة، وقال موريس بسرعة:
- مافي قيّدها!
بدا مافي مترددًا أو حائرًا، لكن عمار هو من أمسك بإحدى ذراعيها ففعل مافي المثل، فأخذت تتلوى وتركل الهواء، ومن دون تفكير في أي شيء، سحب دكرور الرضيع من بين ذراعيها بسهولة، كأنه يحمله من مهده، فبدأت تبكي وتصرخ على الفور، وتتلوّى فدفعت عمار عنها بقوة، وأخذت تضرب مافي بيدها الحرة، وهي تقول:
- لااا! أرجوكم! أرجوك!! لاااا! لن تأخذه يا ابن العاهرة! أعده إليّ أرجوك!! عُد إلى هنا أيها الملعون!
كانت صرخاتها تعلو وتحتدّ كلما ابتعد دكرور أكثر، والطفل بين ذراعيه ثقيلًا عليه كأنه يحمل صغير حوت، وصل إلى سور السفينة فوقف برهة مغمضًا عينيه ويجزّ على أسنانه كأنه يتألم، إذ كانت كل كلمة تقولها كالفأس على رأسه، وهو يخبر نفسه أو ربما يخبرها؛ أن طفلها سيكون بخير.
ثم حمل الرضيع الهادئ على نحو مريب بذراعٍ واحد، وتشبث بذراعه الآخر بأحد الحبال وبدأ ينزل، حينها سمعها تقول:
- ماذا تفعل؟! لااا! صغيري.. عد إلى هنا.. لاااا!
لم يسمع دكرور "لا" كهذه في حياته، فكانت تصرخ بها حتى بدت تمزق حلقها، ثم سمعها تسعل بشدة كأنها ستخرج كبدها من جوفها، ورآها أخيرًا وقد أغشيَ عليها.
وجد أطلس فاغرًا فمه، فنظر دكرور إلى الرضيع قبل أن يدخل، ليجده ينظر إليه بدوره كأنه يعرفه، فهمس إليه:
- لا تدّعي الثبات أيها الأحمق الصغير! سنعبر أحد أبواب الجحيم الآن!
ثم أحكم ذراعيه حوله وأسرع إلى الجوف، ليجد الرجال بالداخل في انتظاره، فقال بوهاردي:
- ما الذي أخركم؟ هل واجهتم مشكلة؟
كشف دكرور عن المشكلة التي بين ذراعيه، فبُهِتوا جميعًا، ما عدا سيجورد فقد انفجر في الضحك.
★★★

كان أطلس يغني بصافرة طويلة غليظة لا تبشر بخير؛ بعد أن دخل موريس وعمار ومافي بالفتاة الفاقدة للوعي، ووضع دكرور رضيعها بين يديها، ووقف على مقربة منها مواجهًا لباقي الرجال، ثم خلع موريس ردائه ووضعه عليها ورضيعها، فقال رالف:
- هل جلبتم أم ورضيعها؟
ردّ موريس:
- كانت السفينة تغرق بالفعل حين وجدناها
فقال بوهاردي بغضب:
- اللعنة عليكم!! كيف تفعلون ذلك؟.. كيف يسمح لكم أطلس بالعودة؟
ردّ موريس بعصبية وانفعال جعله مهيبًا أكثر مما هو:
- أكنتَ تريد أن نتركها لتغرق مع طفلها؟ أم نتركها على قارب إلى البحر يقرر مصيرها؟ هه!! هل نقتل الفتيات والرضّع الآن؟.. إن كان أحدًا يريد فعلها فليتفضل...
ثم سحب خنجره وقدمه إلى بوهاردي أولًا فلم يأخذه، ثم إلى رالف ثم إلى باقي الرجال، ولما لم يأخذه منه أحد، وأراد أن يعيده في غمده؛ نتشه منه بوهاردي وتوجه به نحو الفتاة، فغيّر أطلس نغمة أغنيته ورفعها وأخذ يكررها، ويبدو أن بوهاردي قد سمعها، فتوقف عن أي ما كان سيفعل، والتفت إلى الرجال وألقى إلى موريس بخنجره، وقال بيأس وغضب:
- حسنًا يا موريس.. ماذا تريد أن تفعل؟
لكن أوين هو من تكلم:
- يا رفاق! لا يجب أن تبقى هذه الفتاة هنا، هذا الجنس لا يجب أن تطأ له قدم في جوف حوت، صدقوني إنها خطر
تغير صوت أطلس إلى الحِدة بعد أن كان غليظًا، ثم ردّ موريس:
- هل تريد أن تقتلها أنت الآخر؟
- ‏نعم ولكن ليس هنا بالطبع
علَت غمغمة من الجميع ليست واضحة إن كانت معترضة أم موافقة، حتى قطعها مافي:
- هل قلت إنها خطر يا أوين! لا تبدو خطرة لي، أعني أنظر إليها.. إنها تبدو مثيرة للشفقة حتى
ردّ أوين:
- بل نحن من سنكون مثيرين للشفقة.. انتظر وسترى
لم يبدُ على أحد أنه قد فهم مقصد أوين سوى رالف الذي قال:
- ربما أنت محق يا أوين، لكن هل يجب قتلها لذلك؟
وأضاف سيجورد:
- بالفعل يا رفاق! وجود فتاة هنا سيكون إضافة لا بأس بها لوسائل المرح في الجوف، أتفهمون قصدي؟
قالها بابتسامة خبيثة، فقال بوهاردي بدهشة وازدراء:
- اللعنة! هل تريد أن تقلب الجوف لماخور؟!!
لم يكفّ أطلس عن النحيب كأن أغنيته أصبحت حزينة، وقال عمار بسخرية كأنه لا يسمعه:
- من قال ذلك؟!، أتركها معنا أسبوع وستحبنا، سنحرص على ذلك أنا وسيجورد
وضحك هو وسيجورد بخبث، فقال أوين بعصبية:
- أترون! هذا هو الخطر الذي أتكلم عنه يا مافي...
- مؤكد أنها لن تحبكَ يا أوين.. سأحرص على ذلك أيضًا
وفجأة لاحظ دكرور أن معهم فتاة، وفهم مقصد أوين وخطورة وجودها في مثل هذا المكان الذي يعج بالرجال الذين لم يروا الجنس الآخر من البشر منذ سنوات، بعضهم منذ أكثر من قرن، وبعضهم نسيَ أشكال النساء، وبعضهم ربما لم يتعامل مع امرأة في حياته سوى أمه، فكر في ذلك وقال:
- مهلًا يا بوهاردي! لماذا إذًا أردتَ التخلص منها إن لم يكن لذلك؟
لكن أوين هو من أجاب:
- لأنها ستشي بنا إن عادت إلى اليابسة أيها الأحمق! فإن لم نتخلص منها لأنها سوف تشي بنا، فيجب أن نفعلها لأنها ستثير الفتنة بيننا
- ربما لن يصدقها أحد
- لا يمكنك التأكد من ذلك سوى بطريقة واحدة
قال دييجو:
- أتدرون.. ربما لن تكون إضافة للمرح كما يقصد سيجورد، ألا يمكن أن يكون وجودها معنا شيئًا لطيفًا فحسب؟
ضحك الجميع خاصةً عمار وسيجورد، ودندن أوساي بنغمة رومانسية متهكمة، فزجرهم دييجو بحدّة:
- أعني ربما نحن قتلة ومجرمين وشياطين وكل شيء سيء، لكننا لا نغتصب الفتيات
وأضاف موريس:
- ولا نقتلهن!
ثم قال رالف وهو ينظر إلى الفتاة في استغراق أو ربما إلى رضيعها:
- لم لا نتخلص منها ونبقي على هذا الصغير؟ إنه يذكرني...
ثم أردف بعد أن أشاح بوجهه عنها كأنه أفاق:
- ...بأحدهم!
قال أوساي بدهشة:
- اللعنة! لكنه سيظل رضيعًا إلى الأبد، أليس كذلك؟!!
ضربه دييجو على رأسه وقال:
- يكفينا أنك ستظل قزم إلى الأبد!
ثم قال سامبار:
- ماذا إذا لم يكن من المفترض أن نتخلص منها أصلًا؟ ماذا إن كانت مثلنا؟
قالها سامبار فبدت الحيرة على البعض والضيق على البعض الآخر، فأردف موضحًا:
- ربما هي هنا للعقاب مثلنا، ماذا إن كان أطلس قد التقمها كما فعل معنا جميعًا؟
اتضح الكلام للجميع فعلت غمغمات مندهشة تصدق على كلامه، وقال عمار:
- ليس لدي مانع في ذلك!
وقال أوين:
- إذًا سيصبح ذلك جوف الجحيم نفسه!
وقال مافي منهيًا التفكير في الأمر أكثر:
- لكن أطلس لم يلتقمها، بل نحن من أدخلناها
وأضاف دكرور:
- كما لم تكن هناك عاصفة
وقال موريس بعد أن نهض:
- حسنًا كفى حديث بشأن هذه الفتاة.. هذه الفتاة ستظل هنا حتى نتشاور مع أطلس في أمرها، أما الآن فأنا لست في مزاج لفعل أي شيء.. عمتم مساءً جميعًا
تغير صوت أطلس بين الحِدة والغلظة وبدا غريبًا، كانوا جميعًا يسكتون حين يسمعون صوته ويبلعون ريقهم بعد أن يسكت، إذ إنهم جميعًا يعلمون أن مثل تلك الأصوات تعِدهم بنوم مضطرب حتمًا، ثم استوقف بوهاردي موريس قائلًا:
- هل حقًا ستنام الآن؟! هل تسمع هذا؟ إنه صوت حوت غاضب، أنت لا تريد أن تذهب إلى أطلس في عالم الأحلام حين يكون غاضبًا
- ‏بحقكَ يا هاردي! منذ دقائق كنت ستقتل فتاة في جوف ذلك الحوت الغاضب، ماذا بظنك كان سيحدث إن فعلتَ؟
ثم ضحك بتعب وأردف:
- هل تذكر ماذا فعل حين تشاجرت مع هنري؟ فما بالك بقتل أحدهم؟
مرة واحدة فقط زار دكرور أطلس في الحلم حين كان غاضبًا على مافي بعد حادثة تاندي وسفينة القراصنة، ولم يكن الأمر حسنًا أبدًا، لم يكن استياء أطلس يؤثر على الأحلام فحسب، بل على الأجواء في اليقظة أيضًا، حتى أن الجوف يصبح أكثر ظلمة ووحشة.
ثم عاد موريس يقول مخاطبًا الجميع:
- إذًا جميعنا متفقون على ألا نمسّها بأي سوء حتى يخبرنا أطلس بشأنها؟ صحيح؟!.. صحيح يا أوين؟
أومأ أوين بضيق فأردف موريس:
- سيجورد!.. عمار!
أومأ كلاهما وهما يخفيان ابتساماتهما بأيديهم، فتركهم موريس وذهب، وفي طريقه وقف بين دكرور ورالف وهمس إلى كليهما:
- أشعر بالإرهاق الشديد يا رفاق، سأترك تلك الفتاة في حمايتكما.. مفهوم؟
أومأ رالف متعجبًا وربّت موريس على كتف دكرور وابتعد إلى سبيله، فنظر رالف ودكرور إلى بعضهما في استغراب.
وتساءل سامبار:
- كيف لامرأة ورضيعها أن يكونا على سفينة تحويت أصلًا؟
ردّ أوين:
- مؤكد أنها زوجة القبطان.. هؤلاء الأوغاد يدفعون المبالغ لجلب نسائهم معهم
قال سيجورد وهو يبتسم:
- لا أعلم.. تبدو لي كعاهرة متجولة بين السفن
★★★

خلد معظم الرجال إلى النوم، حرص موريس على ذلك، ربما لكي لا يتلقى غضبة أطلس بمفرده، وكان رالف مع بوهاردي يتسامران، وجلس دكرور في انتظاره ينظر فوقه من حين لآخر، إذ كانت الفتاة ترقد أعلاه مباشرةً على الجهة الأخرى من الجوف، فلم يرِحه هذا كالعادة وقرر أن يبقى على مقربة أكثر، فسار في نصف دائرة إلى الجهة الأخرى وجلس بالقرب منها عند رأسها، وبقيَ يرمقها في شرود.
لم يشرد فيها لكنه شرد في تذكر ما حدث اليوم، وفكر في كل ما قد قيل بشأنها، وتذكر صراخها الذي لا يزال في أذنه ويجعل جسده يقشعر، وتذكر أخذه لرضيعها من بين يديها وحمله بين ذراعه، تذكر ذلك فنظر إلى الرضيع النائم فوق صدر أمه ويستر منه الكثير، ويعلو ويهبط بفعل أنفاسها البطيئة، حينها تحركت الفتاة بوهن، وأنّت بصوت خافت، ودوّرت وجهها ناحيته، ثم عادت تسكن.
تأمل دكرور وجهها بوضوح أكثر، وشكّ في أنها ليست أصغر من عمار، ربما في سن سامبار، لكن أيًّا كان سنها فقد كانت أصغر من أن يكون لديها رضيع، ثم بدأ يلاحظ شعرها الفاحم المبتل، الذي بدا مرسومًا على جبينها ويغطي نصف وجهها الشاحب المتسخ، فكان يخفي قليل من النمش على أنفها، والذي كان صغيرًا ويصدر صفيرًا خافتًا كأنها مصابة بالبرد، ومن تحته تنفتح شفتان رفيعتان لتساعد أنفها في عمله، إجمالًا لم تكن جميلة، لكنها كانت أجمل بكثير من أن تكون قبيحة.
ثم أخذته عينه من دون أن يوجهها إلى رقبتها، ولم يشمئز من أنها متسخة هي الأخرى، وعليها خطوط أفقية سوداء لم يغسلها ماء البحر، ثم أخذ هو عينه إلى صدرها وما تحت الرضيع، وإذ كان رداء موريس يغطي من فوق خصرها، فقد انتقل بعينه إلى أبعد من ذلك، ورأى فستانها الأصفر الملتصق بفعل البلل؛ بساقيها القصيرتان الممتلئتان، ولاحظ لأول مرة قوامها الذي لا يبدو أنه قد حمل في طفل من قبل، ثم حين لم يكن هناك ما تذهب إليه عينيه بعد ذلك؛ بدأت تعتمل في رأسه خواطر لا تحتاج إلى العين لتصورها، فقط عقله.
استدعت تلك الخواطر نوع من الشهوات التي لم ينسِها دكرور طوال خمس أعوام، لكن تلك المدة كفيلة بأن تجعله لا يعبأ بها حين كانت تأتيه، عندما كان يحكي هو وسيجورد ودييجو للرجال، ولعمار وسامبار بالأخص؛ عن تفاصيل دقيقة وحساسة في علاقة الرجل بالمرأة، يكاد يجزم أن القتال هو ما جعله لا مبالٍ هكذا، إذ بالنسبة له قد أصبح القتل إفراغ شهوة من نوعٍ ما.
ثم حين تزايدت تلك الأفكار وتحولت إلى خيالات أكثر حِدّة، وفكر دكرور في سحب رداء موريس من عليها؛ جاء رالف وجلس بجانبه، فأشاح دكرور عن الفتاة واعتدل في جلسته بجانب رالف، ثم تذكر ما قاله موريس لهما وائتمانهما عليها، فقال لنفسه بسخرية "أنا حتى لا ائتمن نفسي!"، ثم قال لرالف:
- لماذا تظن أن موريس أخبرنا نحن بأن نحرسها؟
- لا أدري.. ربما لأننا لم نبدِ أي آراء دموية أو شهوانية
- أليس أنت من قلتَ أن نتخلص منها ونبقي رضيعها؟... بمن قلتَ أنه يذكرك؟
رَد رالف بسرعة:
- لم أقل!!
ولم يلقِ دكرور لذلك بالًا، وقال بسخرية:
- ربما لم نبدِ أفكارً شهوانية لكنها موجودة رغم ذلك
ضحك رالف وقال:
- ربما تحتاج لزيارة خفيفة إلى اليابسة يا دكرور
- ربما.. لكني لا أريد أن أتذكر شيئًا مما كنتُ عليه قديمًا
ثم تذكر شيئًا قاله موريس وانتبه إليه حينها، فقال:
- ماذا حدث حين تشاجر بوهاردي مع هنري؟
أجاب رالف على الفور كأنه فكر في الإجابة منذ لحظة:
- أوف!! أصدر أطلس أولًا أصواتًا مرعبة تشبه ما سمعت اليوم ثم أظلم الجوف سريعًا وشعرنا به يضيق، وكان الأمر أسوأ حين ناما، إذ إن في الأحلام تتضاعف كل المشاعر، ويحتدّ إدراكنا للأشياء
- اللعنة! لا زلتُ لا أتخيل كيف كان يعيش ذلك الرجل الذي وجدناه في جوف الحوت الذي قتلناه، مؤكد أن حياته كلها كانت هكذا
- ‏أتدري! يمكن لأطلس أن يكون وَحشًا متى أراد، وأن يكون الجلاد الذي من المفترض أن يكونه، وأن يكون جوفه السجن الذي من المفترض أن يكونه، وأن يعاقبنا بما نستحق؛ لكنه ببساطة لا يفعل
وأضاف بابتسامة طيبة:
- يفعلها فقط حين نتشاجر مع بعضنا أو حين يؤذي أحدنا الآخر في لعبة الصاري والمرساة، كأنه أب حنون على أولاده
ورقدا يدندنان معًا بأغنية جميلة من أغاني أوساي تدعى "لا تبتعد"، ثم سكت رالف فجأة فوجده دكرور قد نام فوكزه فأفاق، فقال وهو يتثاءب:
- لا أدري يا دكرور.. لكن موريس عجوز مرتاب، سأذهب إلى النوم
ثم نهض وأردف:
- آمل أن يكون أطلس قد صب غضبه كله عليه هو وبوهاردي
وظل دكرور وحده راقدًا حتى كاد أن يغفو، لكنه أفاق عندما سمع صوت يقترب ويقول:
- ...صدقني إنها أصلب مما تبدو
اعتدل في جلسته فوجدهما عمار وسامبار، اللذان جلسا إلى جانبيه وكلاهما يحدق في الفتاة بطريقة غريبة، فضرب عمار على رأسه قائلًا:
- ما كل هذا النشاط؟!.. أليس هذا موعد غيبوبتك؟
- بحقك يا دكرور!.. كيف أنام وهي هنا؟
نظر دكرور إليه بريبة وقال:
- لا تفكر في الأمر أكثر أيها الفتى! إنها تبدو أكبر منكَ
- وإن يكن!.. ثم إن عُمري تسعة وأربعين سنة... أيها الفتى!
- لا زالت تبدو أكبر منكَ
ثم نهض سامبار وهو يقول:
- كفاكَ يا عمار! أخرجها من عقلك، ربما سترحل غدًا
وكأنه لم يسمعه؛ قال عمار وهو لا يزال يحدق بالفتاة:
- حتى أنها تبدو أجمل وهي نائمة...
ومد يدًا إلى وجهها ولم يفعل سوى أن رفع خصلة من شعرها عن جبينها، فأحجم دكرور عن إبداء رد فعل سوى الحذر، حتى سحب عمار الرداء الذي يغطيها ورضيعها من عليهما، وحينها أمسك دكرور بيده بعنف، وعقد حاجبيه وزنهر له بعينيه، حتى بدا مخيفًا كما لم يبدُ من قبل، وقال وهو يصرّ على أسنانه:
- لا تلمسها!
اندهش عمار كثيرًا من ردّة فعله، فنظر إليه باستغراب وذهول وقال:
- ما بكَ أيها المعتوه؟!! هل تحرسها الآن أم ماذا؟
- ما أفعله ليس من شأنك.. فقط لا تقترب منها ثانيًا
وقال سامبار بنبرة آمرة:
- مهلًا يا دكرور! إنه لم يفعل شيئًا
- ‏بل فعل!
ثم سمعوا صوت أطلس بصافرة بعيدة خفيضة تكاد لا تُسمع، فنظر دكرور إلى سامبار ثم إلى يده الممسكة برسغ عمار ثم إلى عمار، وترك ذراعه بعنف أسقطه يتكأ على مرفقه، ثم عاد ينهض بعصبية ووقف الاثنان يواجهان بعضهما، يتبادلان النظرات الحادة الصامتة، وبينهما كان سامبار يقف حاجزًا يزجرهما ويحاول تهدئتهما، وكل ذلك بهدوء حتى لا يوقظوا أحد النائمين أو يسمعهم أطلس، ثم قال عمار بصوت خفيض لكن بحدة وعصبية شديدة:
- لم يكن عليك أن تكون وغدًا هكذا!
- وأنت لم يكن عليك أن تكون وقحًا هكذا!
ثم بدا عمار أنه يبذل مجهودًا كبيرًا لدفع الغضب وهو يتنفس بقوة، ثم نظر إلى الفتاة ثم إلى سامبار ودكرور بخجل، كأنه عاد إلى وعيه للتو وقد هدأ تمامًا، وقال بصوت واهن وعينان تنضحان بالدمع:
- معذرةً! كنتُ فقط...
ولم يكمل كلامه، وابتعد دون أن يلتفت إلى دكرور الذي حاول أن يستوقفه، فقال له سامبار في عتاب وهو يبتعد وراء عمار:
- تبًا يا دكرور! كان أوين محقًا رغم كل شيء..
شعر دكرور بضيق لم يشعر به من قبل، إذ كان عمار أول صديق حقيقي يحظى به في حياته، وظل صديقه الوحيد لأشهر قبل أن يتعرف على الآخرين في الجوف، كما أنه حتى الآن أقرب مَن بالجوف إليه، تذكره لكل ذلك كان مما أضاف إلى ضيقه وحزنه شعور مقيت بالوحشة.
نظر إلى الفتاة أخيرًا وفكر بحسرة وهو يجز على أسنانه "إنها أخطر مما حسب أوين"، أراد أن يركلها بقدمه هي ورضيعها، وأن يجرها من شعرها خارج الجوف في المحيط، أو أن يدق عنقها بخنجره الآن، لكنه لم يفعل أي من ذلك، واكتفى بأن لعن الساعة التي وجدها فيها، ولعن موريس، ولعن نفسه أنه وجدها أصلًا، ثم ابتعد عنها وتكوّر على نفسه في ركن ونام.
★★★

(2)
كان البحر ثائرًا، والموج كالجبال، والرياح تكاد تحمل بعض من مياه البحر من شدتها، والمطر كثيف خانق، وجميع أشرعة السفينة مُنزلة ومربوطة بإحكام، حتى كادت الرياح أن تجعلها تطير، فأخذت تعلو وتهبط وتخترق جبال الأمواج.
ووسط كل ذلك كان الرجال جميعهم يقفون بثبات أكثر من الصواري نفسها، وحتى الفتاة كانت تقف مبتعدة تحمل رضيعها ولا يبدو عليها القلق.
يعلم دكرور أن الأمور ليست بخير، لا يبدو أي شيء بخير، الغضب والثورة والتوتر في الأجواء، ويبدو القلق والخوف على الجميع، ثم تضاعف كل ذلك عندما تكلم أطلس:
- كيف تجرأتم على إدخال شيء إلى جوفي دون إذني؟ هل نسيتم أنكم هنا للعقاب؟ هل أصبحتم تشرِكون كل الكائنات معكم فيه؟
لم يبدُ الغضب في صوته كثيرًا، مع ذلك؛ بدا مهيبًا أكثر مما كان عليه دومًا، وربما أراد الرجال ليقفزوا من السفينة من شدّة الخجل، لكنهم وقفوا كأنهم ممسمرين إلى خشب السفينة، وقال سامبار:
- لا تستاء يا أطلس.. سنصوّب الأمور
- لست مستاءً.. أنا فقط أشعر بالمغص، وبالحديث عن تصويب الأمور، يجب أن تذهب المرأة.. إن لم تريدوا قتلها فلا بأس، لكنها يجب أن تخرج، إنها أكثر شيء خاطئ دخل جوفي منذ أوساي
قالها أطلس من دون أن يعلم أنه شيئًا مرحًا أو مثير للضحك، فضحك الرجال كلهم بشدة، وقد هدأت ثورة الأجواء كأن العالم يعود إلى صوابه، ثم سأل أوساي بتعجب:
- ألا يدخل النساء أجواف الحيتان؟
- لا أعلم.. إنهم من لا يجب أن تطأ لهم قدمًا في جوف حوت، أو حتى في البحر، لكن لمَ لا!
وسأل رالف:
- ألم تتزوج يا أطلس؟
بدت الكلمة غريبة حين قيلت، حتى وإن قيلت في عالم الأحلام، ورَدّ أطلس:
- أنتَ تعلم أنه لم يعد هناكَ حيتان من فصيلتي، أو هذا ما كنتُ أعتقد
- ألا زلتَ تبحث عنهم؟
- بلا، وقد اقتربت كثيرًا من أن أجدهم، على كل حال.. ستخرج المرأة في أقرب وقت
قال موريس:
- في أي وقت تكون فيه مستعدًا يا أطلس، ربما سنلقيها على أول يابسة ستقابلها
كانت السماء قد كفت المطر، وتفرقت السحب السوداء، وهدأت الرياح الغاضبة، واستوت مياه البحر، وصار الجو يبعث السكينة في النفس، وتحول الكابوس المزعج إلى حلم جميل.
بقيَ الرجال على السفينة لا يفعلون شيئًا سوى الاستمتاع بالأجواء، وحتى الفتاة كانت تهدهد طفلها في مرح وسعادة، ثم إنها قد سلّمت دكرور رضيعها برضى كأنه والده، وما أن حمله بين ذراعيه حتى هَوَت بصفعة على وجهه أيقظته وأخرجته من عالم الأحلام.
★★★

صحى دكرور قبل الجميع، فتفقد ما حوله بعين ناعسة، وتفقد الفتاة النائمة على مقربة، وظل عدة ثواني يدقق النظر فيها لكي يستوعب ما يرى، فقد كان أحد الرجال بجانبها وقد همّ بها كما الرجل وامرأته، ودقق النظر أكثر فلاحظ خصل من شعره الأحمر تداعب وجه الفتاة، التي لا تزال نائمة لا تحرك ساكنًا ورضيعها بجانبها؛ فعلم أنه سيجورد.
سار نحوه وأراد أن يستل خنجره، لكنه لم يُرِد أن يتكرر الأمر كما حدث مع عمار، فوقف بجانبه دون أن يشعر وقال هامسًا بحزم بصوت حاد:
- سيجورد!!! ماذا تفعل؟!!
انتفض سيجورد عنها وتراجع على ظهره، فبدا محرَجًا وقال مازحًا يحاول أن يخفي توتّره:
- أه دكرور!! كنتُ فقط... أريد أن أخبرها بشيء عن كثب
ثم اعتدل في جلسته وتحول مزاحه إلى ضيق وقال:
- اللعنة على ذلك يا دكرور! لم يكن هناك ما أفعله على كل حال
- ماذا تقصد؟
- في مكان آخَر كنتُ لأجعلها تنجب طفلين آخرين بحلول الآن، لكن ذلك الجوف... لم يسلبنا شهوة الطعام والشراب فقط
- حقًا!! هذا ليس صحيحًا! كيف لَم ألاحظ ذلك؟
- لطالما كانت شهوتنا في عقولنا وذاكرتنا، وتلك الفتاة.. إنها تذكرني بهواياتي القديمة
نظر دكرور إليها وجلس بجانب سيجورد وقال ربما ليواسيه:
- أعلم ذلك، أنا أيضًا كانت لي هواياتي، أتدري.. ربما نذهب إلى اليابسة بعد أن ننتهي من ذلك الأمر
- اللعنة على اليابسة هي الأخرى! لا أريد أن أطأها ثانيًا... أه! انظر من استيقظ!
كان الرضيع قد استيقظ ينغى ويلاعب الهواء الذي على وجهه، ثم أردف سيجورد بإعجاب لا يخفي ازدراء:
- كم أنه مثير للشفقة!
جاءهم بوهاردي بصحبة رالف وقال:
- ألم تستيقظ بعد؟ كأنها ماتت!
ثم حمل رالف الرضيع برفق وهو يقول:
- كيف تتركونه على الأرض هكذا أيها المعاتيه؟!
وأخذ يداعبه بين ذراعيه، فقال بوهاردي بشك ساخر:
- ماذا تفعلون معها على كل حال؟
رَد سيجورد:
- كنا نؤنس وحدتها
وأضاف دكرور:
- كنا نخبرها بشيء عن كثب
فضحكا ثم سمعوا أنينًا خافتًا بجانبهم صادرًا عن الفتاة، ليجدوها تجحظ إليهم في رعب، وأخذت تلتفت بعصبية من حولها، قبل أن تلاحظ اختفاء رضيعها، وحينها بدأت تهلع وتبكي كمن أصابه الجنون، فابتعد الجميع عنها يقفون في ذهول، فذهب رالف إليها وأراد أن يسلّمها رضيعها، لكنها انتزعته من يديه وضمّته إلى أحضانها بقوة.
من المفترض أن تهدأ حين تجد رضيعها سالمًا بين يديها، لكنها لم تكف عن البكاء الذي تحول إلى نحيب، وحاول البعض تهدئتها دون جدوى بعد أن أيقظت جميع النائمين، فتركوها وحاولوا أن ينشغلوا عنها بأي شيء، لكن طال بكاؤها وعلا وأصبح يسبب الإزعاج، حتى جاءها أوساي وصاح فيها بعصبية:
- هلّا تصمتي!!! إن كنا نريد أذيتكِ أو رضيعكِ لَما كنتِ على قيد الحياة الآن.. مفهوم!
وبالفعل كفَّ صوت بكائها دون أن تكف عن البكاء، فقال دييجو:
- أنتم تخيفونها أيها الأغبياء...
ردّ سامبار:
- لم نفعل لها أي شيء
- انظروا إلى أنفسكم، انظروا أين نحن! لا نحتاج لأن نفعل شيء حتى نسبب الخوف
ثم قال موريس:
- بالفعل، سنتركها لتهدأ وحدها، أما الآن فيجب أن نتشاور في بعض الأمور الهامة يا بوهاردي
قال بوهاردي:
- أه حسنًا! هل الجميع صاحين؟ حسنًا لنجتمع بعيدًا عن هذه الفتاة، ولا تمشوا على السقف حتى لا يغشى عليها ثانيًا...
★★★

اجتمع كل الرجال في حلقة، وكان عمار يجلس متجهمًا يفصله عن دكرور ثلاثة رجال، وعلى يسار عمار كان يجلس سامبار، وكان هو من ينظر إلى دكرور، لكن أشاح كلًا منهما عن الآخر فور أن تلاقتا عيناهما، ثم قال بوهاردي:
- حسنًا يا رفاق.. ربما تلك أول فتاة على الإطلاق تدخل جوف حوت، وأطلس لا يريدها في جوفه لذا.. سنخرجها هي ورضيعها في أقرب وقت، والآن من يريد أن يرافقها إلى اليابسة؟
ولم يتلقَّ بوهاردي أي إجابة، فأردف:
- إذًا من وجدها أولًا؟
لم يكن دكرور ينتبه لكلام بوهاردي، إذ كان منشغلًا بمراقبة سامبار وعمار من حين لآخر، يتفقد إن كان قد أفاق من شروده، فقال موريس الجالس بجانب عمار:
- مافي ودكرور!
انتبه دكرور فور سماع اسمه، فنظر إلى موريس، ثم إلى عمار، فأشاح الأخير بوجهه، ثم تذكر فجأة آخر ما كان يقول بوهاردي فرَدّ:
- نعم! أنا وجدتها أولًا
فقال بوهاردي:
- إذًا سترافقها أنتَ ومافي
ثم قال سيجورد بتهكم:
- بالطبع! ومن أفضل من دكرور الشجاع الشهم كي يحمي أم ورضيعها
كان دكرور على شفا إخبار الرجال بما رأى من سيجورد، لكنه قال:
- لا يحتاج الأمر إلى شجاعة أيها الغبي! سنجدف بها إلى اليابسة ثم نعود أدراجنا فحسب
ثم تساءل مافي:
- هل سنتركها على أي يابسة؟ أعني ماذا إن كانت صحراء أو ما شابه؟
فردّ موريس:
- تبًا! ربما سنعلم أين ننزلها وأين نحن من خرائط السفينة حين نصعد
فقال دييجو:
- لمَ لا نسألها أولًا من أين هي؟ سيكون لطيفًا إذا أنزلناها حتى بالقرب من بلدها
ردّ أوساي بسخرية:
- ألا تريد أن تطمئن عليها حتى تضع رضيعها في فراشه أيضًا؟ كما أنها لا تفعل سوى البكاء منذ أن أفاقت
قال رالف:
- لن نخسر شيئًا، وربما نجدها تعرف أي شيء عن أخبار التحويت، ولماذا أصبحوا أكثر عدوانية
فقال موريس:
- حسنًا! أتركوا لي ذلك...
ثم نهض وهو يقول:
- لا تتبعوني!
وسار إلى الفتاة التي كانت لا تزال تنشج وجلس بالقرب منها رافعًا يديه بحسن نية، ومع ذلك فقد انكمشت على نفسها وضمّت رجليها إلى صدرها ودفنت وجهها بداخل ذراعيها اللذان يضمان الرضيع، ثم اقترب الرجال كفاية ليسمعوا موريس الذي بدأ الكلام بأن قال:
- مرحبًا! أممم... أنا موريس.. وأنا من فرنسا، هل تعرفين فرنسا؟
فرفعت الفتاة رأسها حتى لم يظهر إلا عينها الدامعة وجبهتها المتعرقة، وأومأت إماءة تكاد لا ترى، فقال موريس بسعادة:
- جميل!.. والآن يجب أن تعلمي أننا حقًا نريد أن نعيدكِ أنتِ ورضيعك سالمين إلى وطنك، لكن يجب أن تخبرينا أولًا من أين أنتِ..
رفعت الفتاة كل رأسها، وقالت بصوت واثق، لا يبدو فيه البكاء:
- أريد أن أعلم أين أنا..
- أممم... نحن في مغارة.. كما ترين إنها مغارة مميزة
- ماذا! أي مغارة؟! لقد كنا في عرض المحيط!
- ‏كما أن مغارتنا في عرض المحيط هي الأخرى
- ولماذا أغرقتم السفينة؟
- أه! إننا فقط... إننا لا ندع أي أحد يقترب من مغارتنا، أؤكد لكِ أننا إن كنا نعلم مسبقًا أنكِ على متن هذه السفينة لما أغرقناها
- لا يهم.. كنت أكره تلك السفينة على كل حال
- ومن أين أبحرت تلك السفينة يا سيدتي؟
- نانتوكيت ماساتشوستس.. وأنا من نانتوكيت
نظر موريس إلى الرجال في ذهول، بدا مخيفًا على وجهه الذي اعتادوه جامدًا، فقال سيجورد وهو ينظر إلى دكرور متعمدًا استفزازه:
- حسنًا.. لقد وجدنا عاهرة نانتوكيت الحقيقية
★★★

(3)
سكت موريس قليلًا يفكر، وعاد يسأل الفتاة بعد برهة:
- أنتِ لم تخبريني باسمكِ بعد
- وينسلو.. جيرترود وينسلو
- عظيم يا سيدة وينسلو!.. ماذا عن هذا الصغير؟
- إنه إدموند
- هل هو هادئ دائمًا هكذا؟ بحقك! إنه حتى أهدأ منكِ
ضحك موريس، وابتسمت الفتاة وهي تنظر إلى رضيعها بين يديها، وقالت:
- لم يكف عن البكاء منذ أن ولدته
فقال موريس بصوتٍ حانٍ:
- حسنًا يا عزيزتي جيرترود!.. سنعيدكِ أنتِ وإدموند الصغير إلى وطنكم في أقرب وقت، ولا تخافي من هؤلاء الرجال.. إنهم طيبون، حسنًا والآن سأترككِ لتعتني برضيعك
أومأت الفتاة بخجل، وعاد موريس إلى الرجال، وجلس بينهم فقال بوهاردي بتهكم:
- ما كل هذه الوداعة؟! حسبناكَ أحدًا آخر
فرَد موريس:
- إن كنا سنعيدها إلى بيتها سالمة فعلى الأقل يجب أن نترك انطباعًا حسنًا حتى لا تفشي سرنا
فقال أوين:
- وكأن ذلك سيضمن أي شيء!
ثم أردف موريس:
- حسنًا نحن الآن نعلم وجهتنا، ومؤكد أنها ليست وجهة آمنة، ما رأيك برحلة استطلاع جديدة يا هاردي؟
رَدّ بوهاردي بعد برهة من التفكير وهو ينظر إلى أوين:
- وإذا افترضنا أن وافق أطلس، فمن سيذهب؟.. لا نريد أن يتكرر أمر ويليام
قال أوين:
- لقد كنا إثنين فقط.. إذا أردتم أن تذهبوا إلى اليابسة ثانيًا فيجب أن نرسل أكثر من ذلك، كما أنها ليست رحلة استطلاع فقط.. ستكون الفتاة معهم
قال بوهاردي:
- إذًا دكرور ومافي ومن أيضًا؟... موريس؟
زفر موريس بيأس ثم أومأ لبوهاردي، فقال دكرور بسرعة:
- وعمار!
فنظر إليه الجميع ونظر هو إلى عمار، فبادله عمار النظر في استغراب، وعاد دكرور يقول:
- أعني أنه... لقد كان معنا حين وجدنا الفتاة
فأشار بوهاردي إلى عمار وسأله:
- وعمار؟!
فقال عمار بعد أن زفر ضحكة قصيرة:
- حسنًا.. ولمَ لا!
ولم يبدُ عليه الامتنان، بقدر ما بدا عليه التعجب، لكن دكرور عدّ ذلك أول خطوة في إصلاح صداقتهم التي أفسدوها، ثم قال موريس:
- ماذا عنك يا أوين؟..
ردّ أوين:
- ماذا؟!! لا.. أرجوكَ يا موريس! لقد اكتفيت من البشر حقًا
- هيّا يا أوين! نحن ذاهبون إلى أمريكا.. وأنت الوحيد الأمريكي هنا، سيساعدنا ذلك كثيرًا
وأضاف سيجورد:
- نحتاج إلى أكبر عدد من الرجال الأصحاء معنا في تلك الرحلة
- ‏بالفعل!
- ‏إذًا سأذهب أنا معكم...
تفاجأ موريس كأنه لم يلحظ أن سيجورد هو من كان يتكلم، فقال:
- لم أقصدكَ أنت أيها الغبي! كنت أكلم أوين
رَد أوين بضيق بعد تفكير:
- حسنًا يا موريس.. لكن فقط لأني أحبك أيها العجوز
ثم قال بوهاردي:
- عظيم! أظن أن هذا فريقنا...
تدخل سيجورد وقال بعصبية:
- اسمع يا هاردي! ربما سنعرف عن تلك السفينة العاهرة التي قتلت نون وربما سنجدها، وحينها ستندمون أنكم لم تأخذوا معكم مزيدًا من الرجال، صدقني ستحتاجون إلى كل رجل معافى هنا
فرَد موريس:
- نحن لا ندري إن كان أطلس سيوافق أصلًا، هو من سيقرر على كل حال
- حسنًا.. فلنترك الأمر إلى أطلس
قال بوهاردي:
- حسنًا يكفي هذا لليوم يا رفاق.. سننتظر حتى يقضي أطلس أمره
★★★

وجد دكرور عمار جالسًا أمام دييجو بينهما لوح شطرنج وقد انهمكا في المعركة، فقرر الذهاب إليهما، فلم يلاحظه عمار قبل أن يجلس أمامه بجانب دييجو، وما أن فعل حتى أشاح عمار بوجهه، ودوّر عيناه في محجريهما علامة الامتعاض والضيق، فقال دكرور وكأنه لم يرَه:
- من يكسب؟
ردّ دييجو:
- هذا الغبي أصبح عِدائيًا على غير عادته..
فقال عمار وهو ينظر إلى دكرور:
- لستُ الغبي الوحيد الذي أصبح عدائيًا يا دييجو
فقال دكرور:
- أليس من الممكن أنك من أثَرت عدائيته يا دييجو؟
ردّ دييجو:
- ماذا؟!.. سأهزمه على كل حال، لم يكن بالأمر المهم
قال عمار بحِدة أكبر:
- بالفعل يا دييجو! ربما لم يكن بالأمر المهم
فقال دكرور وقد رفع صوته هو الآخر:
- ماذا؟! حتى وإن لم يكن بالأمر المهم؛ لم يكن هناك بُد من فعله على كل حال
- أعلم ذلك أيها الأحمق! فقط أردتُ أن تخبرني ذلك بطريقة أفضل!!
علم دكرور أن هذا النوع من المشاحنات لن يثمر إلا زيادة الخصومة، فقال بعد أن سأم المواربة:
- أعلم أنه لم يكن هناك داعي لكل هذا، ولذلك فقد جئتك نادمًا معتذرًا
قام دييجو وهو يقول:
- أه حسنًا! أظن أن الأمر لا يخصني.. سأعود لاحقًا، إن حرّكتَ أي قطعة سأجعلكَ غير قادر على الخروج من هنا لدقيقة واحدة
أردف دكرور بعد أن ذهب دييجو:
- بحقك يا عمار! يجب أن تعلم أنه لم يكن لك مكان في تلك الرحلة لولاي.. ظننتُ سيفيدك ذلك
وأردف وهو يغمز له:
- وربما نجد لك فتاة تعجبك
- حسنًا لن أنكر أنها كانت بادرة طيبة..
مدّ دكرور يده أمامه للمصافحة وقال:
- إذًا هل اصطفينا؟
فنظر عمار إلى اليد الممتدة إليه بشك، كأنه يفكر في تحريك قطعة شطرنج، ثم صافحها ولم يخبر بشيء سوى ابتسامة ممتنة.
وأثناء ذلك كان موريس قد استيقظ من غفوته القصيرة فأخبرهم:
- لقد وافق أطلس على الذهاب إلى تلك المدينة، وأخبرته أين يذهب، وسيستدعينا في أي وقت الآن، لذلك كونوا مستعدين، و... يمكن أن تأتي معنا يا سيجورد
قال آخر شيء بسأم، فهتف سيجورد وتراقص في مكانه وقبّل موريس رغمًا عنه، فأبعده الأخير وابتعد عنه.
ثم عاد دييجو وقال:
- أرجو أن تكون قد حللت مشكلتك مع ذلك الوغد يا دكرور.. والآن اتركني لأحل مشكلتي معه
- كان ينبغي أن تهرب حين أتتك الفرصة
قال عمار ذلك، وعاد كلاهما إلى مباراتهما.
وبعد فترة ليست طويلة قال عمار:
- كش ملك!
وقبل أن ينتزع دييجو حلقه من رقبته، رنّت في الجوف ضحكة نسائية تسكِر العقل، أعقبتها تصفيق وهتافات الإعجاب من الرجال، لم تكن ضحكة خليعة لدرجة الفجور، لكنها كانت كافية لإثارة انتباه جميع من سمعها.
★★★

‏كانت آتية من عند الفتاة بالطبع، والتي كانت تجلس تتسامر مع موريس ورالف وأوين، كأنها تجلس مع والدها وعمّها وابن عمّها.
فنهض عمار ودكرور ودييجو، لينضموا إلى جِلسة السّمر، وما أن وصلوا ورأت الفتاة دكرور حتى اكفهرّت ملامحها، واختفت ابتسامتها، وضمّت رضيعها إلى صدرها أكثر، ثم قال موريس:
- آه! دعوني أعَرّفكم.. أيها الرجال! هذه جيرترود، جيرترود! هذا دييجو، وبالطبع تعرفين عمار ودكرور
تعجب دكرور من طول نظرتها إليه هو بالذات، فكانت عينها تطق بشرر وغضب وتحدٍ وخوف أكثر شيء، وهي تقول:
- نعم بالطبع! لن أنسى الوغد الذي قيدني والوغد الذي أخذ مني طفلي
قال عمار بدهشة وهو يشير إلى موريس:
- ماذا!! يجلس بجانبكِ الوغد الذي ألقى بالأمر أولًا...
وابتعد أول ما حاول موريس الوقوف، ثم خلع فردة حذائه بسرعة ورماه بها، فلم ينبس عمار بكلمة بعدها، حتى عندما قال له أوين بنبرة منتصرة:
- انظر من أصبحت تحب الآن!
ثم سرعان ما جاء باقي الرجال الواحد تلو الآخر على إثر الأصوات.
كان دكرور عاقدًا حاجبيه ينظر إليها شزرًا، فقال وهو يشير إلى صدره:
- لقد أنقذتكِ أنتِ ورضيعك..
قالت الفتاة في تحدٍ:
- ألم يكن بمقدورك أن تدلني على الطريق وحسب؟
- أه أعذريني!.. كان يجب أن أشير إلى حوت كبير في الماء وأخبرك أن تقفزي إليه مع رضيعك وتدخلي إلى فمه ما أن ينفتح.. نعم، بالفعل إنها غلطتي!
وضحك الرجال خاصةً سيجورد، وانضمّ إليهم أطلس بصوت قرقرته الذي نادرًا ما كانوا يسمعوه، والذي يبدو كأنه يضحك مثلهم، فنظرت الفتاة من حولها باستغراب، ثم رفع دكرور صوته وقال وهو ينظر أعلاه:
- ماذا قلتَ يا أطلس؟ هه! ألم تخبرها بعد؟ حسنًا اسمح لي...
ثم اقترب من الفتاة، وانحنى أمامها يواجهها، وأردف بنبرة متهكمة:
- عزيزتي جيرترود! كنت أريد أن أخبركِ هذا بطريقة أسهل.. لكنكِ الآن في بطن حوت
واستمرّ الرجال في ضحكهم، لكن توقف دكرور عن الضحك، وجمدت ملامحه حين وجد جيرترود تبادله النظرة الجامدة، التي لم يبدُ فيها الخوف أو الرعب كما هو متوقع؛ بقدر ما بدا فيها الاندهاش والتعجب وربما الفضول، حتى قالت:
- الأمر حقيقي إذًا!
رجع دكرور إلى الوراء قليلًا، وقال:
- ماذا قلتِ!!
لم تجِبه وبدا أنها على وشك أن تنهار، بعد أن قامت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، وتتلفت حولها بعصبية، وأوشكت على البكاء، فقال أوساي بسأم:
- ها هي ثانيًا!
فقام موريس يحاول تهدئتها:
- كل شيء على ما يرام يا عزيزتي! المكان آمن هنا، إنه أكثر أمنًا من السفن حتى، فقط لا تقلقي
ثم توجه إلى دكرور وقال يعاتبه:
- هل أنت سعيد الآن؟!
فكر دكرور "أنا في قمة سعادتي!"، لكن لم يقل شيئًا حتى لا يغيظ موريس، ثم هدأت جيرترود بعد مدة وقالت بتوتر وهي تتفحص الرجال من حولها في شك وارتياب:
- هذه المغارة!.. إنها ليست... إنها داخل بطن حوت؟.. وأنتم تعيشون داخل حوت؟
قال بوهاردي باستغراب:
- يبدو أنكِ تعرفين ذلك بالفعل!
قالت بعد أن عادت تجلس، وقد هدأت قليلًا:
- أه أنا لا أتذكر، ولم أكن أعبأ.. لكن سمعت جيمس يقول في مرة أن هناك طائفة ما أو جماعة أو ما شابه؛ كانوا يدّعون أن هناك بشرًا يعيشون في بطون الحيتان ويرسلهم الحيتان لإغراق السفن... مهلًا! إن هذا ما تفعلونه فعلًا؟
وقع كلام جيرترود كالصفعة على مسامع الرجال، فعُقِدَت ألسنتهم وشلَّت أجسادهم، إلا موريس بالطبع، فكان رابط الجأش كعادته، ولم يهزه أي كلام، فقال في هدوء:
- كما هو معلوم يا عزيزتي فهذا ما نفعل بالفعل، لكن أخبريني هل لتلك الطائفة اسم أو أي شيء قد أثار انتباهك؟
- إن كان لهم اسمًا فأنا لا أعرفه.. لكنهم بدأوا في الظهور منذ سنة تقريبًا وربما أكثر، وكان لهم مؤيدين وأتباع يصدقونهم حين أبحرنا منذ ثمانية أشهر، ومنذ أربعة أشهر قابلنا سفينة في المحيط قد أبحرت من بعدنا أخبرت جيمس أن هؤلاء القوم أصبح لديهم سفينة، أذكر أن ذلك ما قد أثار حفيظته كثيرًا
- أعذريني يا عزيزتي!.. لكن هل بإمكانك تذكر اسم تلك السفينة؟
هزت جيرترود رأسها، فقال بوهاردي بسرعة ولهفة:
- لكنهم في نانتوكيت أليس كذلك؟
ردّت جيرترود:
- بالطبع إنهم في نانتوكيت!
ودون سابق تحذير من أطلس، أو استعداد من الرجال؛ أخبرهم أنه حان وقت الصعود، مطلِقًا أغنية الاستدعاء ذات الصافرات الثلاث الطِوال، فانقبض قلب دكرور وشعر بالرهبة، على غير عادته حين كان يسمع تلك الأغنية.
★★★

(4)
ظلّ الرجال لبرهة ينظرون إلى بعضهم، كأنهم ينتظرون من ينهض أولًا ليتبعوه، حتى قال بوهاردي وقد بدا عليه التوتر هو الآخر:
- حسنًا يا رفاق!.. حضّروا أنفسكم..
أحضر كل رجل حربته وبندقيته أو مسدسه، وبكى سامبار بطيبة ورضى وهو يساعدهم ويودّعهم ويحتضنهم، وقال مازحًا بعد أن وَدّع أوين:
- عودوا بسرعة.. وعودوا بشَعرِكم
ووقف بوهاردي مواجهًا لكل الرجال، وظهره إلى باب الجوف، وقال وهو يحاول جاهدًا إظهار الثبات:
- أممم! أريد فقط أن أخبر من لن يرجع إلى الجوف معي أن... أه! فقط عودوا سالمين...
ونظر إلى أوين وأردف بابتسامة حزينة:
- وعودوا جميعكم.. حسنًا! أنا أحبكم جميعًا!
ثم التفت بسرعة لكي يخرج، ربما قبل أن يرى أحد عينيه الدامعة، لكنه توقف فجأة وعاد يقول:
- أين الفتاة؟
كانت جيرترود تقف بعيدًا عنهم وتحمل طفلها، وتنظر إليهم في تعجب وترقب وقلق، فنادى عليها موريس:
- سيدة وينسلو! يجب أن تأتي معنا الآن، بهدوء إذا سمحتِ..
قالت جيرترود بعد برهة، كأنها كانت تستوعب الكلام:
- مماذا؟!! لا لا تعبأوا بي.. لا أريد أن أعطلكم!
- أنا أصرّ يا سيدتي.. لم يعد بإمكانك المكوث هنا أكثر
- من قال ذلك؟!.. يعجبني المكان هنا.. أتعلم! ربما سأنظفه لكم إلى أن تعودوا.. ما رأيكم؟!
أطلق أطلس صافرة أخرى، فقال موريس بنبرة أكثر حِدّة:
- أخشى أنه إن لم تأتِ معي بهدوء فسأترك الأمر إلى مافي ودكرور..
يعلم دكرور جيدًا أن تلك الفتاة تكرهه وربما تخشاه، لكنه لا يعبأ بذلك، فقد ضاق بها ذرعًا بالفعل، فتقدم من بين الرجال ووقف أمامها لكي تراه بوضوح دون أن ينبس بكلمة، وفور أن رأته ابتعدت بتوتر وعصبية ناحية موريس، وقالت وهي تشير إلى دكرور:
- ابتعد عني أيها الوغد!.. حسنًا يا سيد موريس.. فقط أبعدهم عني وعن صغيري إدموند
خرج بوهاردي أولًا، فصعدوا إلى السطح وتشبثوا بجانب السفينة، وسرعان ما صعد دييجو وأوين ثم ظهرت جيرترود وقد أحكمت ذراعيها حول الطفل، وبدا أنها سوف تغرق حينما تركت نفسها دون أن تحاول السباحة، فأمسكها كلًا من أوين ودييجو من ذراعيها بسرعة ورفعاها إليهم، فتعلقت بذراعٍ واحدة بأحد الحبال وبالأخرى كانت تحمل طفلها، وقبل أن تفكر أن تسعل وضع دييجو يده على فمها، وسبابة يده الأخرى على فمه، يحذرها من إصدار صوت.
ولما صار جميع الرجال والنساء والأطفال فوق السطح؛ تسلق بوهاردي جانب السفينة ليتفقد متنها، وما أن رفع نصف رأسه عاد يخفضها ثانيًا بسرعة كأن أحدهم قد ضربه على رأسه، فتسلق دكرور إلى جانب بوهاردي واختلس نظرة من السطح، ليجد رجلًا جالسًا على إحدى البراميل يعطيهم ظهره، وتستند على كتفه بندقية، وهناك آخرون واقفين وجالسين ومتكئين، وجميعهم مسلحين.
عاد بوهاردي ودكرور إلى الماء وقال الأخير:
- لقد عددتُ ستة مسلحين
- حسنًا سنسقط هؤلاء أولًا...
فسبِح موريس من تحت السفينة إلى جهتها الأخرى وتبعه فريقه، وانتظروا حتى أتتهم إشارة بوهاردي بالصعود، فبدأ دكرور يتسلق بسرعة، ثم رأى بوهاردي يصعد ويغرس حربته في ظهر الجالس أمامه، ثم انهالت الحِراب أولًا تطير هنا وهناك فوق سطح السفينة، تبعها القتال بالأسلحة النارية، فقُضيَ على كل من كان على المتن، وأخذوا أماكنهم يتوارون متأهبين، فريق يصوب على فتحة الكوثلة عند المؤخرة، والفريق الآخر في المقدمة عند الفتحة الأخرى.
وأثناء ذلك أطلقت عدة رصاصات عشوائية من فوقهم آتية من أعلى الصاري الرئيس، إذ كان أوساي لا يزال في طريقه إليه، فلاحظه من كان على الصاري كأنه كان يبحث عنه، فأطلق عليه وكاد أن يصيبه، قبل أن يرديه أوساي بتصويبة بارعة وهو لا يزال يتعلق في الحبال، فسقط الرجل من أعلى الصاري لكن تعلقت جثته بحبال السفينة المتشابكة، بعدها لاحظوا أوساي يرفع إبهامه فعلموا أنه لم يُصَب.
بعدها صعد إثنين مسلحين ممن كانوا في الأسفل، فأسقطوهم على الفور ولم يتبعهم أحد، فظلوا متوارين يتربّصون أمام فتحة الكوثلة والمقدمة، حتى خرج ثلاثة بحارة من كل فتحة يطلقون بعشوائية وتبعهم آخرون واختبأوا بسرعة، لكن أطلق عليهم أوساي من فوق الصاري، فخرجوا من مكامنهم ولاقوا حتفهم الواحد تلو الآخر.
وقال بوهاردي بضيق وغضب بعد أن انتهوا:
- يصبح الأمر أكثر صعوبة كل يوم!!
وسأل مافي:
- هل يمكن أن تكون هي السفينة العاهرة نانتوكيت؟
رَد أوين:
- ليست هي، لقد رأيتُ الاسم...
★★★

صعدت جيرترود وكانت تبكي بالفعل، لكن زاد نحيبها عندما رأت الموتى ودماءهم أينما ولّت بوجهها، فأخذها دييجو إلى عند مؤخرة السفينة بعيدًا عن الجثث والرائحة.
ثم نزل موريس إلى أسفل، وعاد ببوصلة ومجموعة من الخرائط والسجلات، فبسط إحدى الخرائط على إحدى الصناديق، ثم وضع عليها البوصلة، وأشار إلى الشمس التي شارفت على الغروب، وقال لرالف:
- حسنًا! إن اليابسة في هذا الاتجاه..
قال بوهاردي:
- لكن أي يابسة؟.. أين نحن بالضبط؟
ردّ رالف:
- ولم بالضبط؟ أتريد أن نذهب إلى الميناء مباشرةً؟
وأضاف موريس:
- بالفعل! لن نخاطر حتى بالإبحار بالسفينة قرب اليابسة، سنذهب بالقوارب وننزل إلى أقرب يابسة ونتدبر أمرنا من هناك
فقال سيجورد:
- هل تريدنا أن نجدّف حتى نجد اليابسة؟
- لا أعرف، ربما سنستعين بأطلس في ذلك
ثم فتح موريس السجلات، وقرأ فيها ثم قال:
- نحن في شهر يوليو من العام ستة وأربعين
قال عمار:
- هه! لقد ولدتُ في يوليو
فقال دكرور بسخرية:
- وكم أصبح عمرك الآن؟.. تسع سنوات أم عشر؟
- لقد أتممت الخمسين أيها الطفل الصغير!
فحيّا الرجال عمار بحفاوة، ونزل بوهاردي ورالف إلى أسفل، ثم عادا بالأسلحة والذخيرة، وجاء بوهاردي بصُرّة ممتلئة بالعملات، فوضعها على الخريطة وقال:
- ستحتاجون إلى هذا...
وعاد سيجورد وأوساي من أسفل وقد أحضرا برميلًا من المزر، وحضّر سيجورد حساءً وقام بطبخ بعض اللحم المملح، وقدّمه إلى الرجال في أطباق، وجلسوا يأكلون في حلقة يتوسطها برميل المزر، وكانت جيرترود تجلس خارج الحلقة، تأكل في صمت وتجَهُّم، لكن تتجرع المزر بنهم.
وأخذ الرجال يتسامرون ويتضاحكون ويغنون، حتى بدأوا يتعبون أو أنهم فقط يثملون، فرفع بوهاردي كأسه فسكت الرجال ثم قال وقد سكَرَ تمامًا:
- أمم! بمناسبة أن هناك منا من لن يعود معنا إلى الجوف هذه المرة.. أه! أريد أن أحييهم وأشكرهم
قالها فازداد الصمت صمتًا، حتى رفع رالف كأسه وقال بثبات أكثر:
- نخب من لن يعود معنا، لكنه سيعود إلينا!
ورفع كل الرجال كؤوسهم واحتسوا منها جرعة في صمت، فقال أوساي:
- نخب بلوغ عمار الخمسين!
فصاح الرجال ورفعوا كؤوسهم، حتى قاطعتهم جيرترود قائلةً:
- هل قلت خمسين؟!! هل عمرك خمسين سنة؟!!
فقال بوهاردي بمرح وبصوت أخرق:
- نخب جيرترود ورضيعها، أول امرأة وأول طفل يدخلون بطن حوت!
فهتفوا ورفعوا كؤوسهم مرة أخرى، ثم ردّ عمار على جيرترود بلسان ثقيل:
- نعم، نعم لقد أتممتُ الخمسين.. لكن لا زلتُ أبدو في الثامنة عشر وأتمتع بشباب وحيوية الثامنة عشر، وكم عمرك أنتِ؟
- أنا في السابعة عشر
قالتها فنظر عمار إلى دكرور نظرة انتصار، فجاهد دكرور لإخراج آخر قطرتين من صوته ليقول بصوت خشن كالزمجرة:
- لا زالت تبدو أكبر منك!
وظلّوا صامتين غير قادرين على الوقوف من كثرة الأكل والشرب، إلى أن بدأ الجو يظلم واقتربت الشمس من أن تلمس سطح البحر، حينها قطع أوساي ذلك الصمت وبدأ يغني أغنية "لا تبتعد" المفضلة لدى دكرور:
ستبدأ الحياة قريبًا.. فلا تبتعد عن المحيط
التقط أنفاسك من الماء.. لأن الهواء مميت
وحينما تغرق على اليابسة.. أهرب إلى البحر القريب
وحين تهب العاصفة قريبًا.. فلا تبتعد عني
إنه أنا الجاني.. كما أنني ضحيتك
أنا الملعون.. لكنني المبروك بوجودك
سأدفع ما تبقى من عمري.. فقط لأكون معك
ولأن العاصفة ستنتهي قريبًا.. فلا تبتعد كما يفعلون
لا تبتعد عني.. لأني لم أفعل أبدًا
لا تبتعد عني.. لكي أصبح أحسن
لا تبتعد عني.. لكي نموت معًا
ولأن الحياة ستنتهي قريبًا.. فلا تبتعد لكي أعيش إلى الأبد
لا تبتعد عني لكي أعيش إلى الأبد
يحفظها دكرور عن ظهر قلب، ورغم أنها أغنية حزينة ومؤثرة بعض الشيء، إلا أنها لم تؤثر فيه من قبل مثل هذه المرة.
ثم بعد أن انتهى أوساي نهض موريس بصعوبة وقال:
- من يريد أن يبدّل ملابسه فلينزل الآن..
ثم نزل أولًا وتبعه البعض، وارتدى دكرور قميصًا وسروال بحمّالات على الأكتاف ولم يحتَج إلى معطف في شهر يوليو، ووجد قبعة رمادية وما أن رفعها على رأسه حتى بدا أنه ذاهب إلى أمريكا حقًا، فرآه مافي وقال بإعجاب وهو يعطيه بلطته:
- حسنًا أيها المتأنق! لقد حان الوقت.. لا تصعد ومعك فتاة أخرى!
فنزل دكرور وصنع خرقًا في السفينة، ولم يرجع إلا بعد أن تأكد أن الماء سيتدفق حتى تغرق، فوجد الرجال وقد بدأوا يودعون بعضهم بالفعل، كان يعلم جيدًا في قرارة نفسه أن تلك اللحظة لا مفر منها، لكن لا يعلم لماذا لم يفكر فيها قبلًا، كان يتصافح هذا وذاك ويتعانق هذا وذاك، حتى أن أوساي بدا كالورم في ساق مافي وهو يحتضنها ويبكي، وبوهاردي أيضًا لم يقدر على دفع بكاءه وهو يعانق موريس نصف عناق، كما بكى عمار ورالف وأوين، ومن لم يبكِ منهم فقد ذرف الدمع كما لو أنه فعل.
مثل دكرور، فبجانب الألم الذي اعتاده في حلقه عندما يمكث طويلًا خارج الجوف؛ أضيف إليه ألم دفع البكاء، وأما عن دموعه فتلك لم يكن يمانعها، إذ لم يكن لها من دافع على كل حال، ثم صافح بعضهم، واحتضنه بعضهم، وجثا على ركبتيه يحتضن أوساي فقال الأخير:
- كنت لآتي معكم.. لكن كما تعلم إن قدماي أقصر من قضيبي
زفر دكرور ضحكة، وضمّ أوساي إلى صدره أكثر كأنه يردّ عليه "وأنا أيضًا سأشتاق إليك"، ثم قال سيجورد بمرح لم يبدُ في صوته:
- ماذا أصابكم جميعًا؟! سنعود في خلال يومين!!
وجيرترود تقف وتشاهد كل ذلك في استغراب واضح على ملامحها، فقال لها موريس وهو يشير إلى القارب:
- من بعدكِ يا سيدتي!
فأخذ بيدها برفق وصعدت إلى القارب بهدوء، وتبعهم كل الرجال ما عدا بوهاردي ودييجو، فقد بقيا على السفينة لإنزال القارب.
وأثناء ما كان القارب ينزل، نفث أطلس عمودًا من الرذاذ الدافئ ذو الرائحة التي تعلق بالجسم، فنزل عليهم كالمطر الخفيف، وحينها قرر دكرور بعد أن سأم من دفع البكاء؛ أن يطلق سراح قلبه أخيرًا لكي يبكي من دون صوت إلا صوت أنفاسه، وقد تضاعف همه وحزنه حين رأى موريس بالذات وهو يبكي، إذ إن بكاء الناس محزن بما فيه الكفاية، لكن بكاء من نعتمد على ثباتهم؛ فذلك كفيل بتمزيق القلب وزعزعته.
ثم قال سيجورد لأطلس وهو ممسكًا بحبل ويريه إياه:
- نريد مساعدتَك للوصول إلى اليابسة.. حسنًا!
ثم ربط الحبل بذيله، وقال بوهاردي وهو في الماء:
- عودوا في أسرع وقت ممكن
ثم قال مافي:
- وأنتم خذوا حذركم حين تصعدون
وقال دييجو:
- لا تقلق علينا! فقط عودوا سالمين
وقال أوساي أخيرًا:
- نحن نحبكم أيها الحمقى!
واختفوا جميعًا داخل الجوف.
بعدها انطلق أطلس يمخر البحر أمامه، ويقطر القارب من وراءه حتى بدا كأنه يطير، وكانت الشمس قد شارفت على الغروب، وبدأ القمر يأخذ مكانها في السماء تصاحبه النجوم، وكفّ دكرور عن البكاء قليلًا فوجد جيرترود تنظر إليه نظرة لا تخفي شفقة، وقالت كأنها تريد أن تخفف عنه:
- لم أكن أعلم أن لديك قلب!
لا يعلم دكرور إن كانت قد قالت ذلك بالفعل أم أنه هو من قاله لنفسه، وبالرغم من تيقنه أنه قد عاد أبكمًا؛ إلا أنه سمع نفسه بوضوح يقول:
- أتمنى لو أني تركتكِ تغرقين مع السفينة!
وعاد إلى بكائه، وقد ندم كثيرًا أنه سَكَر في مثل هذا الموقف الصعب، إذ إن غياب العقل سواء إن كان سكرًا أثناء اليقظة أو حلمًا أثناء النوم؛ فإنه يعزز المشاعر ويشعلها، من دون أن يهتم بماهية تلك المشاعر.
وظل أطلس يقطر القارب حتى بدا أنه قد قطع المحيط كله، وقبل أن تختفي الشمس وراء الأفق أشار أوين ناحيتها وقال:
- اليابسة! هناك!!
كان يشير إلى خطًا باهتًا متعرج هو الذي يحجب الشمس، وانتظر موريس حتى اقتربوا كفاية منها، والتقط أنفاسه بقوة كأنه هو من كان يسبح، ثم أخذ نفسًا عميقًا وزعق:
- توقف!!!
فأبطأت سرعتهم وتوقف أطلس، ففكوا الحبل المربوط بذيله، وبقيَ يطفو بجانب القارب، ونفث نفثة ضعيفة فجلس الرجال يتأملونه قليلًا، وقبّل عمار يده اليمنى ومسحها على ظهر أطلس برفق وقال:
- لا تبتعد عن المحيط يا أطلس!
وفعل باقي الرجال المثل، ثم قال موريس في تعب:
- هيّا يا رفاق! أنزلوا المجاديف..
واتخذوا أماكنهم فكان مافي وسيجورد على جهة، ودكرور وأوين وعمار على الجهة الأخرى يقومون بالتجديف، وأمامهم كان موريس على مجداف التوجيه، فشاهدوا أطلس وهو يسبح وراءهم في النصف المظلم من المحيط، لكنه توقف عندما وصلوا إلى المياه الضحلة.
ودون أن يبتعدوا كثيرًا نفث أطلس نفثة أخيرة قبل أن يرفع ذيله العملاق خارج الماء كأنه يلوّح لهم، وآخر ما رأوه منه كان ذيله وهو يغوص في الماء، ولم يُبدِ أحدًا أي تأثر بذلك المشهد، إلا الطفل، فقد أجهش في البكاء.
★★★

ترك جوفَ أطلس أكثر من نصف سكانه، بدا الأمر كأنهم خرجوا إلى سفينة، إلا أن مكوثهم سيطول بعض الشيء، وكما يثق أطلس في عودة رجاله من السفينة؛ فإنه يثق في عودتهم من تلك اليابسة، والتي ما أن وضعوا أقدامهم عليها حتى لم يعد يشعر بهم كأنهم اختفوا.
لم يبتعد أطلس عن مكان ما ترك رجاله، وظل يسبح بالقرب من الشاطئ الذي نزلوا عليه، إلى أن عاوده الشعور بالحيتان الرمادية، ذلك الشعور الذي صار يصيبه بالإحباط واليأس أكثر من الأمل، كان قويًّا في بادئ الأمر وذلك ما جعله يتجاهله، إذ إنه دائمًا ما يبدأ قويًا ثم يخفُت ثم يزول تمامًا، فظل مكانه في انتظاره أن يزول، لكنه لم يفعل سوى أن اشتدّ أكثر.
لكن ما أثار اهتمامه هذه المرة هو شعوره بأكثر من حوت وليس حوت واحد، وذلك ما لم يحدث من قبل، لا يزالون بعيدين، ربما شعر بهم أقرب وهو في المحيط الهادي، لكن هذه المرة كان شعوره أقوى، ثم لفت انتباهه أنه لا يزول أو يخفت، فقد طالَ أكثر من أن يتجاهله.
ظل أطلس لبقية الليل محتارًا فيما إن كان سيبقى بجانب تلك الجزيرة منتظرًا عودة رجاله، أو يتتبع الحيتان الرمادية، وفي حين أنه يعلم أن رجاله لن يعودوا إلا بعد حين؛ فقد قرر أن يتوجه نحو شعوره، الذي يعلم أنه في الشمال، وقبل حلول الصباح بدأ يسبح بسرعة أسرع كثيرًا ممّا يفعل عادةً، وهو ينوي أن يعود ما أن يتفقد الأمر، أو ما أن يشعر برجاله، ولم يمضِ كثيرًا حتى حدث ذلك.
وعلى هذه السرعة التي كان يسبح بها؛ فقد قطع مسافه كبيرة قبل أن يشعر برجاله وقد عادوا للمياه، فالتفّ عائدًا بسرعة أكبر، وما أن كاد يصل حتى اختفى رجاله مرة أخرى وزال شعوره بهم، وبقيَ شعوره بالحيتان.
احتار كثيرًا في أمر رجاله وتعجب من فعلهم ذلك، فقرر أن يصرف نظره عن الحيتان حتى رأى بعين أحدهم، ورآهم كثيرين، فقرر أن يصرف نظره عن ذلك حتى رأى جليد من حولهم ربما يعرف مكانه، وأيضًا قرر أن يصرف نظره عن ذلك حتى رأى كيانج بعين الحوت الآخر، وذلك ما لم يقدر على صرف نظره عنه.
وعاد يتوجه شمالًا بسرعة غير عادية، آملًا أن يتفقد الأمر قبل عودة رجاله، فسبح وظل يسبح حتى وصل إلى قلب الشمال المتجمد حيث مات الحوت الصائب، لكن لا يزال شعوره يسوقه لأبعد من ذلك، وأبعد من ذلك يعني المحيط الهادي، وإذ إنه ابتعد كثيرًا على كل حال، فلم يمانع من الذهاب أبعد.
يعلم أن هناك طريقًا مختصرًا من تحت الجليد وبين شقوقه وتصدعاته يؤدي إلى المحيط الهادي، سلكه مرة واحدة من قبل مع كيانج، لكنه لم يجازف بتكرارها مرة أخرى وحده، فكثيرًا ما علقت حيتان فيه وتاهت وماتت مختنقة، فسلك الطريق الطويل الذي يعرفه.
وما أن صار في المحيط الهادي بعدما حلّ الليل؛ حتى علم أن كيانج قريب عندما وجد حيتان زرقاء من أتباعه، إذ كانوا في صف طويل وليسوا قطيعًا عاديًّا، لكنهم أيضًا كانوا شاردين ولا يغنون، أو يصدرون أي صوت، أو أي إشارة تدل على أن كيانج يتحكم فيهم.
وربما لم ينتبه أطلس لذلك، فكان متحمسًا وقد زاد من سرعته، وكلما سبح أكثر كلما اشتدّ شعوره بالحيتان الرمادية، كان موقنًا من أنه أقرب إليهم من أي وقت مضى، ثم وجد سفينة تصيد الحيتان مائلة بعض الشيء ويبدو أنها اصطدمت بالجليد رغم أنه لا يوجد جليد قريب، فلم يعبأ أطلس لذلك أيضًا وأكمل طريقه.
ولم يخُض كثيرًا في الهادي المتجمّد حتى وجد كيانج، وللحظة تعجب من أنه يطفو على السطح على جانبه، وفي اللحظة التالية علم أنه ميّت، وفي اللحظة التالية رأى حوتًا رماديًّا بعيدًا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.